الأحد، ٤ يوليو ٢٠١٠

قرية "أندومرى" تتحدث إليكم..!

أدرك - أيها الأبناء البررة- أنه من الصعب على قرية صغيرة الحجم ،لا مال لها ولا نفوذ، أن تستوقف أحدا في أيامنا هذه ،حيث الانبهار المفرط بالمدن الكبيرة وصخبها ودورة حياتها التي لا تتوقف..أعرف أن بعضكم وقع ضحية للانبهار حتى بمدن الغير في البلدان البعيدة التي يسير فيها "غريب الوجه واليد واللسان"..! ومع ذلك تسكنه بأضوائها وأحيانا برطانة أهلها لدرجة ينسى معها أحيانا مواطنه الأصلية بل يتنكر لها..
أنا- أحبائي- قرية صغيرة شكلا، لكنني غنية النفس عظيمة المضمون بأهلي ..بالرعيل الأول الذي اختارني موطنا وموئلا وعلمني- بصبره وشجاعته وحنكته - أن أكون "الغزال الذي يموت في جدبه"..عانقت - ومنذ الأزل- هذه الكثبان الرائعة التي تختزن- لو تعلمون- تاريخا من الحياة والشمس والكفاح..صحيح أنني لم أنتبذ من وطني الكبير موريتانيا مكانا يشتهر بالزراعة أو التنمية أو المعادن وغير ذلك من وسائل استقطاب السكان ومساعدتهم على الاستقرار..غير أن الذين عمرونى منذ عشرات السنين عوضوني عن كل ذلك، ونحتوا معي هنا فوق هذه الكثبان التي لم تلن إلا لعزيمتهم، إرادة استثنائية للبقاء وتشبثا لا حدود له بالأرض والشمس والحياة..لقد زرعوا عالما من المثل والقيم والدين القويم لأفهم منهم أن جفاف الأرض وتحرك الكثبان ليس دائما عائقا أمام أنواع من الزراعة كهذه تبقى - ملأ الزمن- بذورا متوثبة و أشجارا خضلة ومروجا ناعمة وظلا ظليلا للعابرين وأبناء السبيل..عملوا على تنمية الأواصر الخالدة الأزلية مع الأرض والوطن ..فاكتشفت أن للتنمية جوانب أخرى لا تحتاج لأكثر من عرق الرجال وصبر الرجال وأريحية الرجال..! ! رجالي الأوائل أيضا كانوا معادن حقيقية تمشى على الأرض ليستفيد منها الجميع، ولم ترض تلك المعادن يوما من الأيام- وتحت أي ظرف من الظروف- أن تختبأ تحت الصخور والأودية لتكلف الناس عناء البحث عنها، فكان ألقها وبريقها ونفعها مشاعا -عبر الزمن- للجميع كما ضوء القمر، ودفئ الشمس، وماء السواقى..
لقد كان الرعيل الأول- الذي استوطنني طيلة عقود رائعة من الزمن حبلى بالكفاح- مثالا للصبر والشجاعة..لم تثنه ظروف الجفاف، ولا شظف العيش، ولا الأفق غير المستقر سياسيا وأمنيا، عن المضي قدما في حمل رسالة الدين والثقافة وزراعة الخير والحب والأمل..وإنها لزراعة انبتت بحق واتت أكلها بفضل الله عبر هذه الوجوه الطيبة الناضرة التي تمثلونها- أحبائي أبناء هذا الجيل المعاصر من أبناء القرية- الذي سار على خطا الأجداد العظماء متمسكا بقيمهم ونهجهم القويم، مواصلا الكفاح فى سبيل حماية البذرة الطيبة الطاهرة التي أودعها الأقدمون افقى هذا بكل رماله وكثبانه وأشجاره وطيوره الغردة لتصبح وتبقى- على مر العصور- شجرة معطاء أصلها ثابت وفرعها في السماء..
اننى فخورة بكم وأنتم تحيون بهذه الأنشطة تراث أجدادكم وميراثهم المقدس..وأكاد أسمع تحت هذه الكثبان وبين أطلال الآبار الخربة وبين أزقة هذه المنازل- المتناثرة شكلا المتعانقة روحا ونصا ومنطلقا وموئلا- همسات الرعيل الأول في آذان الزمن احتفاء بكم واحتراما لرفعكم للراية التي ما كان لها أن تسقط ولا ينبغي لها أن تسقط أبدا..فقدرها أن يتلقفها في كل مرة جيل رائع هو امتداد لحبات سبحة مجد وضياء وألق وعنفوان متدفقة عبر الزمن شلال دين وعلم وقيم وأريحية لا يعرف التوقف..
هنا - أيها الأحبة- صمد أجدادكم..عاشوا يدا بيد..ورحلوا باتجاه جنان الخلد يدا بيد ومنكبا بمنكب..نسجوا دائما - بالحب الصادق والثقة المتبادلة- رباطا لا ينقطع واستمسكوا بعروة وثقي لا انفصام لها من التالف والود والحب الصافي صفاء رمالي هذه..تركوا بصماتهم الخالدة ورحلوا..بصمات لا تنمحي أبدا فبها من الدوحة السنية وعبق النبوة وأريج العصور المزكاة ما يجعلها عصية على التلاشي والاندثار..و لولا تلك البصمات الباقية - دينا وورعا وعلما وجهادا وخلقا وإصلاحا بين الناس وذكرا سائرا- لما اجتمعتم اليوم على هذا الدرب النير السالك الممتد باستقامة مظللة بعبق أولئك الرجال الخالدين،و لما تلمستم - بنفس الإصرار الذي لا يلين- طريق الوحدة والتلاقي والكفاح المشترك..
أنتم اليوم - بفضل الله وبفضل ذالك الإرث الخالد- ترفعون نفس الراية، وتحملون نفس الرسالة، وتقفون معا منكبا بمنكب وساقا بساق حتى لا تتركوا لشياطين التفرقة والنفخ في الهواء و إذكاء النعرات الوهمية المنتنة أي منفذ..وأنتم كما أجدادكم الرائعين تحيون أواصر الانتماء للأرض باحتضانكم لرمالي، باجتماعكم على هذا الصعيد الطاهر، فوق أديم قريتكم التي تحبكم لأنها تستحضر فيكم تاريخها العظيم، أيام بناها أجدادكم وعمروها ودافعوا عنها أوقات الشدائد والمحن، وتشبثوا بها حتى النهاية، ووقفوا - جدارا صلبا منيعا- لحمايتها من صولات الطامعين والطامحين - ترغيبا وترهيبا- للاستحواذ عليها ،أو اقتطاع أجزاء منها، مدفوعين بأحلام التوسع والحقد، و أوهام القوة والنفوذ ،والقفز على حقائق التاريخ والجغرافيا والمنطق التي تصرخ أبدا بأن "قرية اندومرى لن تكون إلا لأهلها"..قد يستضيفون البعض ليس ضعفا ولا تزلفا ولا خوفا، و إنما وفاء لقيمهم الأصيلة التي تركها لهم الأجداد كلمة باقية إلى يوم الدين، والتي تحترم الناس وتجيب نداء الملهوف وتعطى السائل وتجير المستجير وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر، كما قد يسمحون للبعض بالإقامة - المؤقتة- على حدودها، لكن ذلك لا يعنى أبدا أنهم تنازلوا عنها أو أنهم مستعدون للتخلي عنها، أو السماح للآخرين بامتلاكها والتصرف فيها تحت أي ظرف من الظروف ومهما طال أو قصر مقامهم عليها..تلك رسالة الأجداد ومسؤوليتكم انتم أيها الأبناء البررة.. إن الدفاع عنى والتمسك لحد الدماء بحدودي وامتداداتي..برمالي وآباري.. بأطلالي وحاضرتي.. بمعالمي وعلاماتي.. أمانة في أعناقكم إلى يوم الدين..و أنا واثقة أنكم ستتحملون الأمانة بصدق الأجداد وصبرهم وشجاعتهم ووجوههم المشرقة دوما في مجالس المكرمات و معالي ألأمور والخصال التي تليق بالرجال،كما في مواقف الوغى ويوم يحمى الوطيس ويمتحن صبر الرجال وتستخلص معادنهم.. وأنتم أيضا - وبنفس الملامح الواثقة- تزرعون كما زرعوا، وتنمون بنفس طريقتهم، وتثبتون اليوم أن هذا الشبل من ذلك الأسد، وأن المعادن التي تمشى على الأرض - والتي كانها آباؤكم وأجدادكم - ستظل متدفقة معينا لا ينضب عميمة النفع منتشرة الفائدة..وان "الغزال" سيظل كما كان يعيش سعيدا كما ولد حميدا ليموت شهيدا "في جدبه" و أي شهادة أروع من الموت تشبثا بالأرض وكفاحا في سبيل المواطن وملاعب الصبا..!
أنا فخورة بكم، والزهو يملؤني و أنا أراكم - حقيقة لا حلما ،على الأرض لا في أخيلة الشعراء- كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا..إن سعادتي اليوم لا حدود لها..انظروا من حولكم ، فتلك الكثبان تتماوج فرحا، وتلك الأشجار تتمايل طربا، وتلك الطيور تغنى جذلى بيوم العيد الذي ترسمون ألوانه باندفاعكم وتحمسكم وسيركم الواثق على دروب الأجداد العظماء..واني لأسمع صوتا خفيفا وادعا ملائكيا حنونا يتسلل من تحت الكثبان كل الكثبان.. وهناك من أرواح "لمغاس" الطاهرة، وسكون "أعريش لغراب"، ونقاء كثبان "اصبيبير"، وصمود "الزيرة الدخنة"، وتجدد "الحرث"، عبقا بتاريخ رائع لأجدادكم المنعمين يستحثكم بلطف، يناجيكم برقة أن: "واصلوا المسيرة، ولا تتركوا الراية التي نسجها أجدادكم وزرعوها بذروة سنام المجد فى عنان السماء تسقط، ولا تسمحوا لأي كان بإطفاء النبراس ولا تتقاعسوا أبدا عن حمل الرسالة الأمانة التي في أعناقكم، أن تظلوا أبدا ورغم كل الصعاب وعاديات الزمن- وكما كان آباؤكم وأجدادكم-خيمة وارفة الظلال تمنح الأمل لكل الهاربين نحوها من يأس الحياة وجحيمها وتهب الدفء لكل الداخلين إليها طلبا للعلم استلهاما لمعانيه واحتراما لسدنته، ورسل توحد وخير وحب وسلام".

قريتكم التي تحبكم بقدرحب آبائكم وأجدادكم لها "أندومرى"